أين ريتا أبو سيدو؟



الوقت المقدر للقراءة: 13 دقيقة
منذ 9 أشهر

أعرفكم على ريتا، ريتا لديها عائلة جميلة قررت الاستقرار في غزة قبل شهرين من بداية الحرب.

بين ريتا وعيوني بندقية

لقد كان وقع الخبر علي كنزول الصاعقة. أرسل لي أحد الأصدقاء خبر استهداف منزلها. لقد وقعت عائلتها بين شهيد وجريح. ولم أصدق حتى أرسلوا لي صورتها. لماذا ريتا؟ وماذا فعلت! ريتا وشقيقتها هما الناجيتان الوحيدتان. ما هي الجريمة التي ارتكبتها عائلة جاءت إلى غزة منذ شهرين فقط!

الدبابات تقترب

عندما بدأ الجيش الإسرائيلي العملية البرية غير المُعلنة من المحاور جميعهم في تاريخ 27 أكتوبر أصبح صوت الزواق البحرية قريباً جداً وأكثر رعباً. من قوة الصوت كنت أشعر أن الزوارق أصبحت بالقرب من كافيه الباقة.

صباحات الاشتباكات

الاشتباكات أصبحت قريبة، وأصبحنا نسمعها بوضوح أكثر، تستمر اشتباكات بالساعات، ولا تتوقف في مخيم الشاطئ. خرجنا ذات مرة للبحث عن أي وسيلة للاتصال بالإنترنت، حتى حذرنا أحد الجيران: لا تقتربوا من مخيم الشاطئ! لقد ذهب جارنا إلى هناك محاولاً الاتصال بالإنترنت، حتى سقط صاروخاً بالقرب من المكان، فانفضّوا الناس من المنطقة، وتناثروا كلاً إلى منزله.

ولكن ما قصة ريتا؟

لقد كان وقع خبر استهداف منزل شخص من أقاربك مزلزلاً. علمت حينها من منشور نشرته إسراء المدلل أن ريتا وشقيقتها ترقدان في مستشفى الشفاء في العناية المركزة. وحينها بدأت عملية البحث. لا أبالغ عندما أقول إنني فتّشت عنها مستشفى الشفاء شبراً شبراً في ولم أجدها.

طوفان الشفاء

إن دخول مستشفى الشفاء مؤذي نفسياً. ما إن تدخله حتى تُصاب بالدوار! لا يوجد موطئ قدم إلا، وفيه بشر وخيام. الشفاء كالمتاهة ولا تعلم أين تذهب، كأن غزة كلها هناك! فجأة رأيت رجالاً يحملون جثة وضعوها داخل أحد الأكياس. هنا توقفت ولم أعد أشعر بالعالم من حولي، وبدأت أجهش بالبكاء. إنها المرة الأولى في حياتي التي أرى فيها جثة أدخلوها في شاحنة تقطُر منها الدماء. هربت من المكان، وأنا أبكي فمررت من خلف الكاميرات المنصوبة على د. أشرف القدرة والصحفيين، وقام أحد أفراد الشرطة بمساعدتي للمرور إلى الناحية الثانية مشفقاً على حالتي.

كالإبرة في كومة قشة

كيف هو شكل مستشفى الشفاء من الداخل؟ مأساوي للغاية. ذهبت أولاً إلى مبنى التخصصي، فأخبروني أن هناك تقريباً 6 غرف عنايات مركزة في الشفاء. لا أستطيع أن أصف لكم المأساة في الممرات، لأول مرة في حياتي أرى هذا. النازحون مستلقين على جانبي الممرات، ويكاد لا يخلو ممراً من النازحين. المشي في الشفاء يشبه المشي على ذاك الحبل الذي يتمايل عليه البهلوان. أمشي بحذر وأمعن النظر أمام قدمي حتى لا أدوس أو اصطدم بأحد. إنهم في كل مكان. دخلت جميع غرف العنايات المركزة من الطابق الأرضي وحتى الرابع. تضغط على جرس يشبه جرس البيت ليفتح لي أحدهم الباب، وأدخل واستفسر عن الأسماء. ما أشد رهبة دخول العناية المركزة! ينقبض قلبي في كل مرة أطل فيها على الغرف التي يرقد فيها آلاف المصابين. أصابني اليأس ولم أجدها. أحد الأطباء بادر لمساعدتي، ورافقني في مبنى الطوارئ. لا أستطيع وصف المأساة فور دخولي الطابق الأرضي ملقون على أسرّة متناثرة وغير منظمة: هذا مصاب في رأسه وآخر في قدمه. لم أعد أشعر بقدماي حينها من الألم. فتشنا جميع طوابق هذا المبنى ولم نجدها. لقد كنت أركض خلف الدكتور حتى لا أفقده أمام طوفان البشر في مباني الشفاء.

سيمفونية الزنانات

ربما ستضحكون على ما سأقول، ولكن في الليل يُصدر الطيران المكثف في سماء غزة أصواتاً تتداخل فتصبح سيمفونية! لم يسمعها أحد سواي، وأعتقد أن رأسي أصبح يؤلمني من أصوات الطيران الذي لا يفارق السماء 7/24

إذا سمعت صوت الصاروخ، فإن القصف بعيد عنك، ولكن إذا كانت الغارة قريبة هذا ما سيحدث، عندما يكون الاستهداف قريباً ستشعر أنك في غرفة من زجاج، وكل ما ستستمع له هو صوت تحطم الزجاج على عكس ما يظن البعض، فإنك لن تستمع إلى صوت الصارخ أو دوي الغارة بل ارتدادها. استيقظت ذات ليلة في منتصف الليل، ولم أستطع النوم. فجأة سمعنا صوت تحطم زجاج بشكل مدو ومرعب. نهضنا على إثر الغارة، فإذا بنا نرى أدخنة القصف غمرت المنزل كلياً! خرجنا لنرى ماذا حصل، لقد كان استهداف لمنزل جيراننا وكان يحترق! هرع الجيران لإنقاذهم من تحت الأنقاض. وخرج أحد الجيران الآخرين أمامنا يركض مع ابنته وزوجته، وقد غطاهم الرماد تماماً! ولم تمر دقائق حتى وصلت سيارات الإسعاف، استطاعوا إخراج الأحياء منهم وانتشال الجثامين.

أصوات الاشتباكات

عندما وصلت الاشتباكات إلى مشارف مخيم الشاطئ.. هل ترى هذه الفيديوهات التي ينشرها كتائب القسام؟ نحن كنا نسمعها على مدار الساعة.

القنابل الدخانية والصوتية

ذات مرة ألقوا على منطقتنا قنابل دخانية خانقة، واختفت معالم الشارع من حولنا، تحولت غزة التي تعج بالحركة إلى مدينة أشباح. أما القنابل الصوتية لديها صوت مروّع. تُلْقَى تباعاً وبشكل مسعور، لقد كنت أصرخ لاإرادياً في كل مرة كانوا يلقونها بوحشية.

ليالي الشمال الحزينة

كان يخيفني أن أرى الجيران تدريجياً تنزح من الحي. لقد كنا آخر النازحين من حيّنا حين علمنا أن الدبابات وصلت إلى مستشفى العيون، ونصبوا القناصة في كل مكان. في الليلة الأخيرة ألقوا قنابل الإضاءة على منطقتنا وحينها وبكل أسى علمت أن التوغل سيتقدم نحونا، ويجب أن نغادر.

ليالي الشمال الحزينة هي أغنية لفيروز. وهذا أقل ما يمكن أن أصف به الليالي العصيبة التي كنا نعيشها في شمال الوادي. لا تتوقع أن تنعم بلحظة هدوء في غزة. في الليالي الصعبة، نمضي إلى إحدى مدارس الأونروا القريبة. خرجت ذات مرة إلى الساحة وسط النازحين، وبينما كنت أتأمل السماء المتلألئة بالنجوم، ومنها طائرات الاحتلال التي تومض وتتحرك، انفجرت السماء بالنيران على إثر استهداف لشقة في البرج القريب. لا أستطيع وصف المشهد، لكنني ركضت إلى ماما، وأنا أرتجف وأضحك من شدة الخوف.

لا يغمض لك جفن

يصل القصف الإسرائيلي إلى ذروته من ساعات الفجر وحتى شروق الشمس. ننام ولا نعلم هل سنرى ضوء النهار أم لا. وكنت أتعجب إذا نمت لليلة كاملة، دون أن أستيقظ كالذي أغمي عليه كلياً.

والمأساة لم تنتهِ هنا.

اقرأ المزيد

اقرأ المزيد من قسم شهادات

الوسوم

شارك


المصادر


x