0%

خارطة غزّة في وجوه الأصدقاء



منذ 10 أشهر
الوقت المقدر للقراءة: 12 دقيقة

تزداد وجوه الأصدقاء شحوبًا. لم يعد سؤال "كيف الأهل؟"، مجديًا. جميعنا يعرف أنّه بات تذكيرًا بالعجز، بعجزنا عن إيقاف التنكيل بأهلنا أمام أعينا. أحد أصدقائي ينام أهله في خيمة، وهو الّذي لم يغلق باب داره في أيّ مدينة، في وجه أحد، بل كان بيتنا جميعًا في الغربة. والآخر، يتلاشى أمامنا خوفًا على عائلته المحاصرة، ويعرف باستشهاد أحد أعزّ أقاربه، هكذا بالصدفة، بعد أسبوع من استشهاده. وآخر، تحاصره ذكرى مدينة لم تعد موجودة. وآخر، لم أعرف مثل كرمه أو شهامته، يعاني أهله من وضع كارثيّ مثل باقي سكّان غزّة. 

هؤلاء جميعًا، استيقظوا ذات يوم، وقد قصف الاحتلال ذاكرتهم، وأنهى على آخر فرص العودة إلى البيت. الاحتلال دمّر غزّة، دمّر آخر المدن العربيّة وهويّة عصرنا. الاحتلال دمّرها، ودمّر طريق العودة إلى البيت لآلاف مثل أصدقائي. الموت جماعيّ، لكن للأسف، مرارة الفقد شخصيّة.

هكذا قتل الاحتلال غزّة الّتي عرفنا أمام أعيننا، واستبدل خارطتها في رأسي بمآسي الأصدقاء وأحزانهم. فمثلًا، قبل الحرب حين كان يذكر أمامي جنوب غزّة أو خانيونس، لا يبادر إلى ذهني سوى خزاعة، وابنها، صديقي، الفلّاح الّذي يلمّ الحصيد، قبل أن تشرّده الغيوم في شوارع المدن الكبيرة. لكنّ خارطة الحرب الحاليّة لم تترك سوى الدماء على الجنوب، وحطام بيت صديقي وعائلته المهجّرة في خيمة.

أمّا عن وسط غزّة، فقد بدأ العدوان الحاليّ بقصف منزل صديقي في برج فلسطين. صديقي الّذي ولد مغتربًا عن غزّة، وعاش محافظًا على لهجته العامّيّة الثقيلة على أمل العودة إلى منزله الّذي يطلّ على أحد أجمل أحياء غزّة، حيّ الرمال، وقد كان تمكّن والده من شرائه بعد سنوات غربة طويل. لكن في خارطة الحرب، لم يبق من وسط غزّة سوى الأماكن الّتي تتنقّل فيها عائلة صديقي هذا، الّذي لا يجد من أحلام العودة إلى مدينته، سوى الصور الّتي لا تفارقه لحطامها.

قرب الرمال، يقع مخيّم الشاطئ، المرتبط في رأسي قبل الحرب بصديق لم نلتق أبدًا، لكنّنا عرفنا بعضنا افتراضيًّا منذ سنوات طويلة. وبالتحديد، في السنوات الّتي شهدت تكون كلّ منّا. بدأنا الكتابة سويًّا في إحدى الصحف اللبنانيّة، ثمّ أغلقت الأخيرة، وفعلت بنا الدنيا ما فعلت، غابت أخباره عنّي، والعكس صحيح. لكنّ الحرب أعادت اسمه أمامي بعدما وجدت حسابه على إكس، وجدته ذكيًّا وشاعريًّا كما كان، لكنّه رأى الموت أمام عينيه مرّات ومرّات. نزح من المخيّم إلى الجنوب في رحلة قاسية مع عائلته. تواصلت معه بخصوصها لأسباب مهنيّة، لم نهتمّ بالتفاصيل، بعثنا لبعضنا برسائل حارّة ومقتضبة، وبعدها قرأت قصيدته عن أيّام الحرب. وقد بدا في كلّ هذا، منهكًا، محطّمًا، لكنّه ما يزال حالمًا. أو كما يقول سركون بولص: "صديقي القصاص هو بعينه لكنّ شيئًا أفرغ عينيه من الضياء، صديقي القديم الفكّه هو بذاته لكنّ شيئًا قلب قسماته من الداخل".

أمّا عن شمال غزّة، فيرتبط في ذاكرتي بكلمات عديدة قبل الحرب، منها المعسكر، الترانس، جباليا. كلّها أسماء ومناطق حفرت في رأسي نتيجة صداقتي مع شابّين من أبناء المنطقة، يختلفان عن بعضهما في كلّ شيء، إلّا في الشعور بالاغتراب كلّما ذكرت شوارع المخيّم. لكنّ خارطة الحرب، باتت تتعلّق إمّا بحصار عائلة أحدهما قرب مستشفى اليمن السعيد، أو بتمكّن عائلة الآخر من النزوح بعد تواصلها مع عائلة الأوّل من أجل طمأنته وطمأنتنا عليهم. هكذا تحوّلت ذكريات أصدقائي عن الترانس، والمخيّم، إلى ذاكرة لا وجود لها على أرض الواقع، أو أيّ خارطة.

حين أفكّر في كلّ ذلك محاولًا إعادة رسم خريطة غزّة وتعريفها مجدّدًا في رأسي، فلا أجد سوى سؤال واحد يتردّد في ذهني: ماذا يعني المكان روحيًّا وذهنيًّا لأبنائه؟ الإجابة الأولى الّتي تبادر إلى ذهني، أنّه الحيّز المرتبط في ذاكرة الشخص بحدث ما في الماضي، يتمنّى تكراره في المكان نفسه، أو أحلام مستقبليّة تحوّل المكان (غزّة)، إلى غاية، وما دون ذلك، وسيلة. ما يعني ببساطة أنّ تدمير مدينة بأكملها مثل غزّة، تعني سرقة غاية الغزيّ في الحياة، وسرقة أحلامه الفرديّة والجماعيّة بأكلمها.

وهذا ما يعنيه تدمير غزّة، فالاحتلال سرق من أصدقائي أحلامهم الفردية -بالعودة إلى البيت، وأحلامنّا الجماعية بأن نجلس سويًا في أرض صديقنا بخزاعة، أو نتمشّى في شوارع الرمال وتلّ الهوى، أو أن نذهب سويًّا إلى جباليا لنأكل في بيت صديقنا الفتّة الغزّاويّة والدقّة كما يجب أن تكون من أمّه، ثمّ نمشي أمتارًا في المعسكر لنصل إلى خال صديقنا الآخر لندخّن الأرغيلة معه ونحن نستمع إلى مطربه المفضّل شفيق كبها. وقبل أن نعود من المخيّم نعرّج على مدرسة صديقنا ليتفاخر المعلّمون به وما وصل إليه أمام التلاميذ الصغار. ولحظتها، ربّما كان ليكتشف صديقي أنّ حياته كلّها كانت تعني الخروج من المخيّم، والعودة إليه مجدّدًا، إلى هؤلاء الصغار لإخبارهم أنّ العالم باتّساع أحلامهم، وليس الحصار. 

أما سرقة كل ذلك ببساطة، تعني أن لا فتّة غزّاويّة في بيت صديقي بجباليا، لأنّ إسرائيل دمّرته للمرّة الثانية في أشهر قليلة. ولا جلسة طرب مع خال صديقي الآخر، لأنّه استشهد ولم يعرف صديقي بالخبر إلّا صدفة بعدها بأيّام، بينما لم يتبقّ له من خاله سوى شفيق كبها وبعض الذكريات. ربما الموت جماعي، لكن الخسارة فردية وشخصيّة. فلم يعد أيّ من أماكن الماضي في غزّة موجودًا، كما أصبحت باقي الأحلام المتعلّقة بها مستحيلة، لأنّ الاحتلال دمّر بيوت أصدقائنا، وهجر عائلاتهم. الاحتلال سرق غزّة، هوية عصرنا وأصدق شهوده منّا، نحن الّذين عرفنا خارطتها من ذكريات أصدقائنا وأحلامهم، خارطة لم يتبقّ منها، سوى ما يبعث الحسرة في نفوس أبنائها على الزمن الضائع في غيابهم عنها، وعلى الأحلام الضائعة بين ركام المدينة وحكايات بيوتها الّتي لا تتّسع لها كلّ خرائط الأرض.


الوسوم

شارك


x