0%

عن أخت قلبي يُسرى: القويّة الرّقيقة



منذ 8 أشهر
الوقت المقدر للقراءة: 14 دقيقة

أرتّب الكلمات في عقلي منذ يومين ولا أعرف كيف أبدأ بتدوينها، يحتارُ المرء أمام سرد تفاصيلٍ غيّرت في نَفسه بشكلٍ كبير، هل تعرفون كيف يكون الأثر أعمق من أن يُوصف أو يُكتب؟ لكن لا بأس..سأحاول.

 

أكتبُ لكم عن يُسرى العكلوك، زوجة الشّهيد المجاهد أسامة الزّبدة، ابن الشّهيد الدّكتور المجاهد جمال الزّبدة، وأخت الشّهيد المجاهد إسماعيل العكلوك، يُسرى أم لثلاثة أطفال جميلين: مريم وجمال وإسماعيل، كنتُ قد حدثتكم عنها من قبل، ولكنني اليوم أريدُ أن أحكي لكم قصّة تعرّفي عليها، وعلى منطقها وإيمانها وكلّ ما تعيش حياتها لأجله.

 

أوّل مرة سمعتُ فيها يسرى كانت في مقابلة تلفزيونيّة بعد استشهاد دكتور جمال ونجله أسامة في معركة سيف القُدس عام 2021، كانت المقابلة مع زوجة دكتور جمال وابنته ويسرى، اختتمتها بجُملة: "أقول للاحتلال احفظ أسماء أبنائي جيّدًا، يومًا ما لن أسمح أن يكونوا أقلّ من جدّهم أو أبيهم"

 

أُصبت بصدمةٍ لا زلتُ أذكرها، وأعدتُ مشاهدة الڤيديو أكثر من مرّة وأنا مشدوهة..أيعقلُ أن يسلبها الاحتلال عمود بيتها ووالد أطفالها، ثمّ بنبرتها الهادئة الحاسمة تخرجُ إلى الإعلام حتّى تُهدد! هذه المرأة التي ظنّ الاحتلال أنّه كسرها وإذ بها تبدأ بالاستعداد لمعركتها، وتتوعّد بالنتائج!

 

هذا الخطاب وهذه العقليّة كانت غريبةً عليّ، أنا التي بدأتُ بتركيب حروف كلمة "غزّة" خلال أحد عشر يومًا من الحرب فقط، ولم أكن أعرف حقيقتها من قبل، هذه العقليّة في الكلام وفي التّفكير بدت منطقيّة لي، وحرّكت شيئًا في نفسي لم تحرّكه الدّموع والأحزان، ربّما كان الغضب، وقوّة الثأر، وعدم الاستسلام..بجميع الأحوال، كان مشهدًا كاللوحة من الصّمود، له وقفة توفيه حقّه.

 

وجدتُ بعدها حساب يسرى على "الإنستجرام" بالصّدفة، كان أوّل منشور شاهدته هو صورة لها وهي تودّع زوجها أسامة بعد استشهاده، وتوصي الزّوجات بأن يقدّرن كلّ لحظة رفقة أزواجهنّ لأنّ الموت قد يكون أسرع من الكلمات، بدأتُ بمتابعتها وقراءة ما تكتب وما تحكي من قصص، وبدأت تغيّر في نفسي شيئًا فشيئًا، تكتبُ عن علاقتها بزوجها أبو جمال وعن شكل حياتهم من بعد استشهاده، عن تربيتها لأبنائها وعن شخصياتهم وأفكارهم، عن صديقاتها ورفيقاتها، عن علاقتها بالله عزّ وجلّ..تكتبُ في الحبّ وفي الجهاد وفي الشّهادة، بصورةٍ متكاملة مترابطة وبحروف مرتّبة تشدّ كلّ من يقرأها.

 

بدأتُ بالتّواصل معها ولم أكن أتوقّع أن تردّ على رسائلي أو كلماتي، ولكنّها كانت في غاية اللطف والتّواضع، يُسرى بالمناسبة لا تحبّ أن يتحدّث عنها أحد كثيرًا، تقولُ لي عندما أمدحها: ما قمتُ به لا يساوي شيئًا أمام أبو جمال، وأنا أقولُ فعلًا، لا يوجد أعظم من فعل الشّهيد، لكنّني لا أملك إلّا أن أفكّر بدورها هي، وكأنني أحلمُ أن أصير مثلها، أو أقتبسُ من منطقها في حياتي، وحقّ الشّهيد وزوجة الشّهيد أن يفهم كلّ من يعرفهما أنّهما العون لبعضهما؛ هو بدوره تقبّل الرّحيل باكرًا رغم صعوبته، وهي احتملت هذا الغياب.

 

أدهشتني التّفاصيل التي روتها عن علاقتهما، ما كنتُ أتخيّل أنّ هكذا زواج موجود فعلًا في عصرنا هذا، قالت لي يومًا أنّه كان بمثابة بطلٍ خارقٍ في عينيها، وحلمها الذي صار حقيقة رغم معرفتها بالتّضحية التي تقدّمها زوجة رجل في المقاومة..كانت تقومُ بالكثير من مهام البيت وتحمل عبئًا ثقيلًا من مسؤوليات الأولاد، وكانت تتقبّل غيابه الطّويل عن بيته وتهدئ من قلقها عليه، وهو في المقابل كان يستغلّ كلّ لحظة ليهتمّ بتفاصيل عائلته، فكان يعلّم مريم مادة الرّياضيات ويلعب مع جمال الكرة، ويغفو بجانب إسماعيل، ويغمرهم جميعهم بحنانه.

 

https://www.instagram.com/p/CPeYLkIAOm_/?igsh=MzRlODBiNWFlZA%3D%3D

 

كان يثقُ بها ثقة مطلقة، يعرفها أكثر مما تعرفُ نفسها، وهذا أدهشني، لم تكن تعرفُ قبل استشهاده أنّها قوية هكذا، قالت له يومًا: "ومن أنا كي أحظى بقلبكَ وقربك؟"، فردّ عليها: "إنتِ يسرى..عارفة إيش يعني يسرى!"، وأثبتت لها الأيّام كلامه، كانت يُسرى التي وقفت كالسّنديانة في أيّار، ومع أنّه موسم الورد إلّا أنّ ما حولها كان قد تحوّل إلى خريف، رغم ذلك وقفت، كالأمل الأخير لأبنائها بالثّبات، وأغرقت الحزن بتلالٍ من الصّبر الثقيل، صارت الأم والأب للأولاد، اعتنت بقلوبهم وحرصت على دراستهم، حفظّتهم أجزاء من القرآن الكريم، أشركتهم في دورات للغة الإنجليزية والسّباحة، وأخذتهم في مشاوير يجلسُ فيها سُمعة في الكرسي الأمامي ومريم وجمال في الخلف، ومع ذلك يطيرون فرحًا! أقامت لهم أعياد الميلاد واشترت لهم ملابسًا في العيد يبدون فيها كقطع الحلوى الصّغيرة، سافرت إلى إسطنبول ومثّلت المرأة الفلسطينيّة، استغلّت كلّ منصة إعلامية للحديث عن شهيدها أبو جمال، قامت بحملاتٍ خيريّة ساعدت فيها الكثير من النّاس..تطوفُ مثل ملاك الرّحمة تطبطب على كلّ من "كسرت الدّنيا بخاطره".

 

ليلة معركة طوفان الأقصى رأى شقيق أسامة في المنام أسامة يقول له: "تسيبوهاش!"، لم يدرِ أحدٌ منهم ما الذي تعنيه هذه الكلمة من دون سياق واضح، وما التي يطلُب منهم ألّا يتركوها، وبعد أن بدأ جيش الاحتلال يقصف شمال قطاع غزّة ومدينة غزّة بشكلٍ جنونيّ وأمر بالنّزوح نحو الجنوب، بدأت الكلمة تتضح، وصوتُ الشّهيد يردد في ذهن يُسرى: تسيبوش غزّة، تسيبوش البيت..وفعلًا لم تترك يُسرى غزّة، واليوم قد مضى ١٤١ يومًا على العُدوان وما زالت يُسرى هناك، تنقّلت لمليون مرّة وحاصرتها الدّبابات وأنهكها الجوع، ولكنّها صمدت وحدّثت كلّ النّاس بالصّمود، ولم تترك غزّة.

 

منذ بداية الحرب لم أستطع التواصل معها إلّا منذ أيّام قليلة، أرسلت لي على "الإنستجرام": "أمل ❤️❤️"، جلستُ أبكي منهارة، يا عيون أمل، يا قلب أمل، يا روح أمل، أيّام طويلة مرّت بثقلها وأنا أزيح فكرة أن أفقدها هي أو أحد من الأولاد، روحي تعلّقت بهم بكلّ ما في التّعبير من معنى، صرتُ أقول دائمًا: أختي، أنا ليس لديّ إخوة، ولا أعرف هذا الشّعور، ولكنني أحسّ أنّها أختي، وصديقتي، وقد قلتُ لها كم أتمنّى أن أشرب فنجانًا من القهوة معها على بحر غزّة، فقالت لي: الله كريم..على بحر غزّة أو ببلاد الله الواسعة.

 

 

اليومُ هو عيد ميلادها، لا أستطيعُ أن أقول لها كلّ عام وأنتِ بخير لأنّها ليست بخير، ولا شيء حولنا بخير، ولكنّني سأقول: كلّ عام وهي الخير، وكلّ ما زرعته فيّ من معاني الحبّ والأمومة والمُقاومة هو الخير.

 

إن لم تعرفوا يُسرى بعد، فقد فاتكم الكثير..


الوسوم

شارك


x