0%

على جانبي الطريق شمال غزة.. ركام وأنقاض



منذ 8 أشهر
الوقت المقدر للقراءة: 9 دقيقة

في رحلة هي الأقرب إلى رحلة الموت وكأنها مغامرة في قلب كهف ابتلعته أدغالاً موحشة، هي طريق الموت، ليست موجودة في باريس بين سراديب الموتى ولا في غابة الانتحار أوكيغاهارا، ولا تشبهها حتى جزيرة الدمى.

بل هي الطريق الواصلة ما بين شمال مدينة غزة وغربها، يقع في شمال المدينة مخيم جباليا ذلك المخيم الذي يعج بالحياة رغم انعدامها. أما غربها فهناك حي النصر الذي يشق من بين أضلعه شارع مستشفى الشفاء، ذلك الشارع الذي شهد وما زال يشهد جميع أنواع التعذيب والتنكيل والظلم.

يسمح في هذه الطريق الخروج والحركة مع انتشار أشعة الشمس وأشباه مظاهر الحياة، أي ما بين الساعة التاسعة والعاشرة صباحًا.

يخرج الغزيّ، ويبدأ يتلو أذكار وآيات الحفظ، يخرج مستودعًا نفسه وأهله لودائع الرحمن التي لا تضيع، ينطلق أهالي غزة لهذه الطريق إما لزيارة الأقارب أو تفقد مرضاهم في مجمع الشفاء الطبي أو حتى سعيا منهم في البحث عن شيء يؤكل في غرب المدينة.
يضطر الغزيّ في خلال رحلة المجهول إما للالتفاف وتغيير مساره مرات عدة أو سؤال المارة عن مدى أمن وأمان الشوارع التي ينوي دخولها، تخوفًا من انتشار عناصر جيش الاحتلال أو اقترابهم، وذلك بعد أن باغت العدو أهالي غرب غزة مجددا في نهاية يناير الماضي، وأعاد اجتياح المكان.

لا يحوم تلك الشوارع الخوف والرعب فقط، بل يسود معظمها الصمت وكأنها طرقات لمدينة أشباحٍ وجدت في رواية خيالية، حتى وإن عجّت الشوارع بشيء من الحركة كان الركام سيد الموقف في منع الغزيّ من مواصلة الطريق، فما تركه الاحتلال خلفه من دمار وخراب أكبر بكثير من قوة سواعد أهل غزة في وضعه جانبًا والمضيّ قدمًا في حياتهم.

أما عن البنية التحتية المدمرة والحفر والأرصفة المجرّفة، فقد أصبحت إحدى المسلمات التي يتعامل معها الغزيّ بكل ثبات دون تذمر، مشهد حقيقي مأساوي غير فنتازي، شوارع كانت في الأصل ممهدة لعابر السبيل. أما اليوم فهي مشرّعة فقط للغزيّ الأكثر صمودًا على وجه الخليقة.

ما كَلَل حال الغزيّ بسوء كل هذا الدمار، بل أخذ يمهد كل الطرق لإيجاد بصيص حياة من بين كل الأنقاض والركام، لم يوقفه طوفان الصرف الصحي المدمرة بنيته، ولا شح وصول المياه لمنزله، بل بدأ هو في الوصول للمياه ونقلها على عربات ليشق أنفاس الحياة مرة أخرى إلى جدران خيمته القابعة فوق ركام المنزل.

تنبعث الأنفاس، وتنتشر الحياة على ضفاف طرق مدمرة، تتخللها رائحة الموت وعفن الجثث والكثير من مياه الصرف الصحي وحشرات نهشت ما تبقى من جثامين الشهداء التي روّت بدمائها قلب غزة، تنتشر الحياة من جديد لتبسط مقتّرةً البضائع والمواد التموينية في محافظات الجزء الشمالي للقطاع.

يروي أفئدة غزة العزة أهلها وهم يتحدون الصعب، وينتشرون فيها للشراء والحركة، سالكين طرقًا مجرفة وعرة يشوبها الحفر وبقايا الصواريخ، يسلكونها لا يأبهون برصاص قناصة غادر ولا حتى طائرة مسيرة تزهق الأرواح.

أهالي غزة العزة في محافظات الشمال، أنتم الجبل الصامد وكفة الميزان الراجحة لمعادلة النصر والثبات، فأنتم أصل الحياة وروحها.

ألا يا لَيْلُ لَيْلَ الفصل
يا مبتسم الزهر
بلغنا خالصين إليك
من حرب بلا فخر
دخلناها بلا قصد
وأدمتنا بلا وتر
تهون لدى مضاربها
جراح البيض والسمر
غزانا عامنا الماضي
غزاة الظلم والقهر
فلا نمسي بلا أمر
ولا نضحي بلا أمر
شربنا الخمر تخفيفا
لطعم الصاب والمر
شربناها لتنسينا
نزال الهم والفكر
شربناها مداواة
لداء الروح بالسكر
عسانا راجعوا حلم
مضى بأطايب العمر
وهذا شربنا يا ليل
من آثاره الكدر
فكن منسدل الأستار
بين العفو والعذر
إلي فديت يا ساقي
بشمس من يدي بدر
وسلسلها، وأسمعني
أنين دموعها تجري
فما ورقاء نائحة؟
على الترجيع من قمري
واطلع في سماء الكأس
آفاقا من التبر
طفا نجم الحباب بها
على شفق من الخمر
دراريء تلك أم مقل
ترامزنا إلى سر
ولون ذاك أم نور
ينير غياهب الدهر
ألا يا عام أزلفنا
إلى العافي عن الوزر
بإحسان تجود به
وتكفير عن الشر
وهذا ليلك المأمول
أحييناه بالبشر
يرينا حسنه وعدا
فهل يصدق في الفجر؟
يظل المرء في دنياه
من شغل إلى شغل
يجد منى، ويخلقها
على الأعوام كالحلل
ومن سنة إلى سنة
يعاودها بلا ملل
فمن أمل إلى يأس
ومن يأس إلى أمل؟
ولا سعد ولا سلوى
ولا مجد سوى العمل
للشاعر جبران خليل جبران - العصر الحديث


الوسوم

شارك


x